العودة إلى الحياء: اكتشاف الفضيلة الـمفقودة

بقلم الدكتور عبد العظيم صغيري

“العودة إلى الحياء: اكتشاف الفضيلة الـمفقودة”، عنوان لكتاب نفيس من تأليف الكاتبة اليهودية “ويندي شاليت”، في نحو من ثلاثمائة صفحة ونيف، وهو عبارة عن صيحة مدوية في وجه التنظيمات النسوية بمختلف أشكالها، والتي دعت إلى تحرير المرأة من كل القيود الكابحة لحريتها، ومن تلك القيود -في زعمهم- “كونها موصوفة بالحياء” وأن “الحياء زينة للمرأة” و”أن قيمتها وأنوثتها في حيائها وعفتها”.

بتأثير من تلك الدعوات، انخرطت المرأة الغربية ومن سار في ركابها من بنات جلدتنا، في مسار لا يتوقف من الممارسات والتصرفات والمواقف التي تبرز من خلالها حقها في التصرف والاختيار المطلق لما تظنه مظهرا للتحرر والانعتاق من سطوة الرجل وهيمنة الأعراف والتقاليد.

من أخطر تلك الممارسات والاختيارات، إقناع المرأة بحقها في التصرف في جسدها والاستمتاع به دون قيود أخلاقية أو مرجعيات قانونية ضابطة، وعليه، شرعت المرأة الغربية ومن اقتنعت باختياراتها من نساء العالم في رسم مسار للكشف عن جسدها وإبراز مفاتنه للعموم، باعتباره مظهرا للزينة والجمال، ومن حق المرأة أن تنتشي بهذا الجمال عن طريق إبرازه للغير على نحو جذاب وملفت، وهكذا يسجل المتتبع لمسار الحركات النسوية في الغرب ارتفاع منسوب تحريض النساء على التبرج والتحلل من كل المظاهر التي يمكن أن تنسبهن لقيمة “الحياء” أو ما يرتبط بها من قريب أو بعيد مثل “العفة” و”الحشمة” و”العذرية”، فصار جسد المرأة الذي هو أخص خصوصياتها ملكا مشاعا ومعروضا بثمن بخس للعموم، وانتقلت المرأة من كونها مطلوبة مرغوبة إلى كونها طالبة لرضى الرجال وساعية لنيل رضاهم عبر سعيها غير المنتهي لتبدو أكثر إغراء وإثارة ولو تطلب منها ذلك إنفاق النصيب الأوفر من مداخيلها على عمليات التجميل والزينة، دون أن ننسى هوسها بصيحات الموضى التي تخدم هذا المسعى وتغذيه بمكر ودهاء.

تأسيسا على ذلك، فإن أي إنسان عاقل عندما يتأمل مسار الانتكاس الذي انساقت وراءه المرأة بعيدا عن فطرتها وجبلتها، يدرك مدى المعاناة النفسية والجسدية التي تواجه كل من انخرط في هذا المسار، ويعي جسامة التحديات التي تواجه المجتمعات التي رضيت بأن تُسلم حاضنة الأجيال؛ أما وأختا وزوجة ومربية أجيال، لقيم تسلخها عن هويتها الأصلية. وعبر تعريتها لجسدها وتخليها التدريجي عن خصوصياتها، تتعرى في العمق من قوتها وجاذبيتها، وهي قوة وجاذبية لا يمكن فهمها بعيدا عن التمسك بالجبلة الأصلية التي خلق الله عليها كل بنات حواء.

وعليه، يبدو جليا أن “ويندي” اكتشفت بأنوثتها وفطرتها المؤطرتين بوعي عميق هذا المعنى، وطفقت تنادي بصوت عال كل أنثى، لترجع إلى فطرتها، عبر دعوتها الحارة للتمسك بالفضيلة المفقودة وهي “الحياء”.

يفاجأ القارئ لعنوان الكتاب باعتباره دعوة لاكتشاف الفضيلة المفقودة، وفي عبارة “اكتشاف” دلالة تستحق أكثر من وقفة، لما تشي به من دلالات حضارية تضعنا في صلب الأزمة الحضارية العميقة للغرب، وهي أزمة أخلاقية ضاربة في الجذور، لدرجة أن “الحياء” اندرس وجوده في المجتمعات الغربية، ولم تعد تشم له رائحة في الأسرة التي يرضى فيها كل من الزوج والزوجة، في الغالب معاشرة الأخدان، ولم يعد له وجود في المجتمع الذي ينظر باغتراب إلى أي أنثى تحافظ على عذريتها وشرفها، وكأن “العذرية” التي هي تجل مادي للتمسك ب”الحياء” صارت سبة وعيبا في مجتمع العري والرضى بالرذيلة، ولم نلمس له أثرا في الشارع الغربي الذي طبع مع الفاحشة، عندما قبل ساسته إقامة بيوت زجاجية تعرض فيها الإناث خدماتهن للرجال المفترسين لكل امرأة رضيت بأن تتخلى عن حيائها وحشمتها، بل إن الأمر أخطر من ذلك عندما نسمع تصريحات الإقتصاديين الغربيين بأن أعمال “البغاء” -وهي أكبر تجل مادي للتنصل من الحياء وإهانة المرأة – من أهم الوظائف المدرة للضرائب، لذلك يتنادون لحماية هاته “الوظيفة” المدرة للدخل، وهم في الحقيقة يسرعون وتيرة خراب هاته المجتمعات عبر تمكين هاته الممارسات الشاذة وتوطينها في المجتمع.

في هذا السياق، تحمل قراءتنا للكتاب أكثر من دلالة، خاصة أنه يأتي من مثقفة أمريكية تلظت بنار التغريب، واحترقت بالدعوات النسوية التي جرفت النساء بعيدا عن فطرتهن، وضيعت عليهن الفضيلة التي تجعل الأنثى أنثى والذكر ذكرا، لذلك فإن المؤلفة تصرح بوضوح في كتابها أنها:” ترفض فكر النسويات وتعتقد أن العديد من أفكارهنّ مسؤولة عن تعاسة النساء، حقيقة الأمر الواضحة هو أنه في نقطة ما انحرف ذلك المنطلق الرومانسي عن جادّة الطريق، وتسبب في تحطيم قطار حياة هؤلاء الشابات؛ أعداد مروّعة من الفتيات اليوم يُجوّعنّ أنفسهنّ، ويذرفنّ الدموع، ويُشوّهن أجسادهن، ويرمين بقلوبهنّ بعيدًا بين أيدي الأوغاد، ويقمعن رغبتهم الطبيعية في الرومانسية، ويُنكِرن حاجتهم إلى الأسرة والأطفال، وعندما لا يتمكّنَّ من التعامل مع النظام الفاسد، يتعاطين البروزاك (دواء لبعض الاضطرابات النفسية). أصبحت النساء أعظم الكائنات كرهًا للنساء في العالم، بعد أن تعلّمن ترك كل شيء يتعلّق بالأنثى”[1].

من جهة أخرى، يمكن اعتبار هذا الكتاب مساهمة جادة في التأسيس لثورة مضادة للنسوية، ثورة عنوانها مصارحة المرأة بحقيقتها، ومكاشفتها بوضوح في المآلات التي وصلت إليها، وعليه فكل ما تريده “ويندي” هو:” أن تعود المرأةُ امرأةً، إنها ترى الانحراف العميق الذي يتمثّل في ترجّل المرأة وتأنيث الرجل على مرّ ثلاثين عامًا في مشروع التخنيث، وهو المشروع الذي يرفض التسامح مع أنوثة النساء. إن هذا الأمر يمكن أن يُوصف بأي شيء عدا أن يكون تحررًا من القيود القديمة، بل هو قمع للأنوثة واعتداء مباشر على نعمة الزوجين. ولكن الآن بدأت ثورة مضادّة، ليست تلك التي تقيد النساء بالسلاسل وتسلب حقهن في التصويت، بل هي ثورة تسمح، بل وتشجّع الاختلافات الطبيعية والتكميلية بين الجنسين”

وتتجلى قيمة “الحياء” عند “ويندي” في كونه: “صفة متأصّلة في الفتيات”، وهو الذي يمنح: “المرأة الحق في منع نفسها عن الرجال ذوي النوايا السيئة، وبدوره يجبر الرجال على أن يجعلوا من أنفسهم جديرين بالنساء اللاتي يرغبون فيهنّ. الحياء الحقيقي يأخذ في الحسبان الفروق التي لا مفرّ منها بين الرجل والمرأة من أجل حماية كل منهما على حد سواء”، فضلا عن ذلك تكمن أهمية “الحياء” في كونه وسيلة تساعد الرجال والنساء معا على إبراز قيم التعامل الراقية بين الجنسين: “إن النساء المحتشمات يعشن بطريقة تجعل منهن نساء متسامحات أكثر من اتصافهن بالفجاجة والوقاحة الجافة، فتصبح الأنوثة التي يعزّزها الحياء مثيرةً للفضول تماما كفضول الناس لقصة أبي الهول، وتماما كما تتألق ابتسامة الموناليزا وجمالها دون الحاجة إلى إبراز مفاتنها أو تكبيرها بالسيليكون، وهذا بدوره له آثار كبيرة وإيجابية على شخصية الرجل، إن حياء الأنثى يثير ردود فعل من الرجال، يحثّهم على أن يُصبحوا رجالًا، وأن يتصرّفوا بشرف، ويرتقوا بفضائل الرجولة التي تستحق جسد المرأة وروحها، وخاصة العفّة والحماية والوداعة”.

في كلمة، يعتبر “الحياء” عند المؤلفة: “خط المرأة الدفاعي الذي خُلقت عليه، وبه يحترمها المجتمع”، وتدافع بشراسة عن ماتسميه “الحياء الخارجي” المتمثل في اللباس، وتعتبره: “الركيزة الأساسية للأخلاق وتهذيب النفس في ما يتعلق بالضبط الجنسي، ومن هنا تأتي الصلة المعقولة بين الحياء الجنسي كفضيلة اجتماعية، والأخلاق الجنسية كفضيلة دينية”

بهاته المصارحة القوية والمكاشفة التي لا لبس فيها، تنبري المؤلفة لمواجهة مظاهر السعار الجنسي الذي تذكيه النساء بانخراطهن في مسارات التعري المبالغ فيها والتي لا نهاية لها، وعليه فإن كل دعوة أو مشروع يستأصل قيمة “الحياء” ويدمره في حياة المرأة خاصة والمجتمع عامة هو عند “ويندي”:” مشروع خسة ودناءة، لأنه ينكر على وجه التحديد ضعف وحساسية المرأة، ويُجرّدها من طريقتها الطبيعية في التغلّب على ذلك؛ بل هو ذروة الكره الحقيقي للنساء”.

إنها دعوة حارقة لكل مدافع عن مصلحة المرأة، باعتبارها أما وأختا وبنتا وزوجة وشريكة للرجل في صناعة الحياة واستمرار النسل البشري، دعوة لإرجاعها للفضيلة المفقودة، وحثها على الاستمساك بالشرف، ودعوتها بقوة لارتياد آفاق الصلاح وأخذ زمام المبادرة بإرجاع القيمة لذاتها باعتبارها جوهرة لا يصلح أن تُعرض بشكل مبتذل في الشارع، فالنفيس من الجواهر من أعز ما يطلب، وهذا ما ترى المؤلفة أنه صار مفقودا مع هيمنة التصور الغربي المادي عن المرأة، وهو تصور حوَّل المرأة إلى سقط متاع وبضاعة للشهوة المادية مفصولة عن أي قيمة أخلاقية أو حضارية.

لذلك، فنحن مدعوون حسب الكاتبة للانخراط في مشروع مجتمعي لغرس “الحياء” عبر: “تعزيز هذه السمة عند الفتيات ببطء وتأنٍّ، لاسيما عند أولئك اللاتي تربّين على يد بالغات أُجبرن على هتك ستار الحياء ممّا سمح بإطلاق العنان لانحلالهن الأخلاقي، وهو ما غرس فيهن أساليب الانحرافات الجنسية، وعبودية الموضة، ومع ذلك، فإن الفتيات غير المحتشمات لا يتم تحريرهنّ بإرادتهن من الذئاب الجنسية. إنهن نساء ليس لديهن أي فكرةٍ عن كيفية حماية أنوثتهن التي لا يمكن التنصّل منها”.

الكلمة المفتاح في كتاب ” ويندي ” هو “الحياء”، وهو الضامن الأقوى للحد من الثورة الجنسية الهائجة، فـــــ “الأخلاق جذابةٌ أكثر من الانحلال”، خاصة إذا ارتبطت بالفطرة التي خلق الله تعالى عليها الإنسان، ذكرا كان أو أنثى. تأسيسا على كل ما سبق، نخلص إلى تقرير حقيقة لا نمل من التأكيد عليها، ونسعى بكل جدية وصبر للتنقير عن ممكنات تحقيقها في الفكر والواقع، عبر الجهود العلمية والتربوية للمركز الدولي للقيم، وهي أن خلاص المجتمعات المعاصرة يكمن في عودتها للقيم الأصيلة المتماهية مع الفطرة، فبدونها لا تقدم يرجى، ولا صلاح يُنشد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.


[1] – النصوص الموجودة بين قوسين عبارة عن اقتباسات من الترجمة التي عرضها الأستاذ “عبد الرحمن روح الأمين” لكتاب “ويندي شاليت” في موقع “أَثارة: فقه تدبير المعرفة ” في الرابط الآتي:

https://atharah.net/a-return-to-modesty-discovering-the-lost-virtue-book-review